كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الحسن وابن زيد: هذا مَثَل للقرآن في قلب المؤمن، فكما أنّ هذا المصباح يُستضاء به وهو كما هو لا ينقص فكذلك القرآن يُهتدى به ويؤخذ به ويعمل به، فالمصباح هو القرآن، والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة لسانه وفمه، والشجرة المباركة شجرة الوحي.
{يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} يقول: تكاد حجّة القرآن تتّضح وإن لم تُقرأ، وقيل: تكاد حجج الله على خلقه تضيء لمن فكّر فيها وتدبّرها ولو لم ينزل القرآن.
{نُّورٌ على نُورٍ} يعني أنّ القرآن نور من الله يخلقه مع ما قد أقام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن فازدادوا بذلك نورًا على نور.
ثمَّ أخبر أنّ هذا النور المذكور عزيز فقال عزَّ من قائل {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} تقريبًا للشيء الذي أراده إلى الأفهام وتسهيلا لسبل الإدراك على الأنام {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ}.
ثمَّ قال عزَّ من قائل {فِي بُيُوتٍ} نظم الآية: ذلك المصباح في بيوت ويجوز أن يكون معناه: توقد في بيوت وهي المساجد، عن أكثر المفسّرين.
أخبرني ابن فنجويه الدينوري قال: حدّثنا ابن حنش المقري قال: حدّثنا محمد بن أحمد ابن إبراهيم الجوهري قال: حدّثنا علي بن أشكاب قال: حدّثنا محمد بن ربيعة الكلابي عن بكير ابن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: المساجد بيوت الله عزّ وجلّ في الأرض، وهي تضيء لأهل السماء كما تضئ النجوم لأهل الأرض.
وقال عمرو بن ميمون: أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: المساجد بيوت الله وحقّ على الله أن يكرم من زاره فيها.
وأخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال: حدّثنا عبيد الله بن ثابت الحريري قال: حدّثنا أبو سعيد الأشجّ قال: حدّثنا أبو أُسامة عن صالح بن حيّان عن ابن أبي بريدة في قوله سبحانه {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} الآية. قال: إنّما هي أربع مساجد لم يبنها إلاّ نبيّ: الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلة، وبيت المقدس بناه داود وسليمان، ومسجد المدينة بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء أُسّس على التقوى، بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري قال: حدّثنا أبو زرعة أحمد بن الحسين بن علي الرازي قال: حدّثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمذاني بالكوفة قال: حدّثنا المنذر بن محمد القابوسي قال: حدَّثني الحسين بن سعيد قال: حدّثني أبي عن أبان بن تغلب عن نفيع بن الحرث عن أنس بن مالك وعن بريدة قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} إلى قوله: {وَالأبْصَارُ} فقام رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: «بيوت الأنبياء».
قال: فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها- لبيت عليّ وفاطمة-؟ قال: «نعم من أفاضلها».
الصادق: بيوت النبي صلى الله عليه وسلم السدّي: المدينة.
وأولى الأقوال بالصواب أنّها المساجد لدلالة سياق الآية على أنها بيوت بنيت للصلاة والعبادة.
فإن قيل: ما الوجه في توحيده المشكاة والمصباح وجمع البيوت، لا يكون مشكاة واحدة إلاّ في بيت واحد؟.
قلنا: هذا من الخطاب المتلوّن الذي يفتح بالتوحيد ويختم بالجمع كقوله سبحانه {يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} ونحوها، وقيل: رجع الى كلّ واحد من البيوت، وقيل: هو مثل قوله سبحانه {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16] وإنّما هو في واحدة منها.
{أَن تُرْفَعَ} أي تبنى عن مجاهد نظيره قوله سبحانه {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] وقال الحسن: تعظيم، {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} قال ابن عباس: يتلى فيها كتابهُ، {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} قرأ قتادة وأشهب العقيلي ونصر بن عاصم الليثي وابن عامر وعاصم بفتح الباء على غير تسمية الفاعل.
ثم قال {رِجَالٌ} أي هم رجال كما يقال: ضرب زيد وأكل طعامك فيقال: من فعل؟ فيبيّن فيقول: فلان، وفلان والوقف على هذه القراءة عند قوله: {والآصال}. وقرأ الآخرون بكسر الباء جعلوا التسبيح فعلًا للرجال.
قال ابن عباس: كلّ تسبيح في القرآن صلاة يدلّ عليه قوله سبحانه {بالغدو والآصال} أي بالغداة والعشىّ.
قال المفسّرون: أراد الصلوات المفروضة، فالصلاة التي تؤدّى بالغدوّ صلاة الفجر، والتي تؤدّى في الآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين لأنّ اسم الأصيل لجميعها.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا عمير بن مرداس قال: حدّثنا إسماعيل بن أبي أُويس قال: حدّثنا عبد الرَّحْمن بن زيد عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يغدو ويروح إلى المسجد ويوثره على ما سواه إلاّ وله عند الله نزل معدّله في الجنّة كلّما غدا وراح، كما لو أنّ أحدكم زارهُ من يحبّ زيارته في كرامته».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا أبو سلمة يحيى بن المغيرة المخزومي قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحسني عن إبراهيم المدني عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن غدا الى المسجد وراح ليتعلّم خيرًا أو يعلّمه كان كمثل المجاهد في سبيل الله رجع غانمًا، ومن غدا إليه لغير ذلك كان كالناظر إلى الشيء ليس له، يرى المصلين وليس منهم، ويرى الذاكرين وليس منهم».
ثمَّ وصفهم فقال {رِجَالٌ} قيل: وجه تخصيص الرجال بالذكر في هذه البيوت أنّه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المساجد {لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} قال أهل المعاني: إنّما خصّ التجارات لأنّها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن الصلوات وسائر الطاعات {وَلاَ بَيْعٌ} إن قيل: إنّ التجارة اسم يقع على البيع والشراء، فما معنى ضم ذكر البيع الى التجارة؟ فالجواب عنه ما قال الواقدي أنّه أراد بالتجارة الشراء نظيره قوله سبحانه {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً} [الجمعة: 11] يعني الشراء.
{عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة} أي إقامة الصلاة فحذف الهاء الزائدة لأجل الإضافة، لأنّ الخافض وما خفض عندهم كالحرف الواحد فاستغنوا بالمضاف إليه من الهاء إذ كانت الهاء عوضًا من الواو، ولأنّ أصل الكلمة أقومت إقواما فاستثقلوا الضمّة على الواو فسكّنوها فاجتمع حرفان ساكنان فأسقطوا الواو ونقلوا حركته الى القاف، وأبدلوا من الواو المحذوفة هاء في آخر الحرف كالتكثير للحرف كما فعلوا في قولهم: عدة وزنة وأصلها وعدة ووزنة، فلمّا أُضيفت حذفت الهاء وجعلت الإضافة عوضًا منها، كقول الشاعر:
إنّ الخليط أجدّوا البين وانجردوا ** وأخلفوك عِدَ الأمر الذي وعدُوا

أراد: عِدَة الأمر فأسقط الهاء منها لما أضافها.
{وَإِيتَاءِ الزكاة} المفروضة عن الحسن.
وقال ابن عباس: الزكاة إخلاص الطاعة لله سبحانه وتعالى. قال ابن حيّان: هم أهل الصفّة.
وأخبرني ابن فنجويه قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا سلمة بن شبيب قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا جعفر بن سليمان قال: أخبرني عمرو بن دينار مولى لآل الزبير عن سالم عن ابن عمر أنّه كان في السوق فأُقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد فقال ابن عمر: فيهم نزلت {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله}.
وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري قال: حدّثنا أبو سعيد أحمد بن عمر بن حبيش الرازي قال: حدّثنا علي بن طيفور النسائي قال: حدّثنا قتيبة قال: حدّثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي حجير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ للمساجد أوتادًا الملائكة جلساؤهم يتفقّدونهم، وإن مرضوا عادوهم وإن كانوا في حاجة أعانوهم».
وقال: جليس المسجد على ثلاث خصال: اخ مستفاد، أو كلمة محكمة، أو رحمة منتظرة.
{يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب} من هوله بين طمع في النجاة وحذر من الهلاك.
{والأبصار} أيّ ناحية يُؤخذ بهم أذات اليمين أم ذات الشمال؟ ومن أين يؤتون كتبهم أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال؟ وذلك يوم القيامة.
{لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} يعني أنّهم اشتغلوا بذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة {لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ} أي بأحسن {مَا عَمِلُواْ}.
{وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ} ما لم يستحقّوه بأعمالهم {والله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
ثمَّ ضرب لأعمال الكافرين مثلا فقال عزَّ من قائل {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} وهو الشعاع الذي تراه نصف النهار في البراري عند شدّة الحرّ كأنّه ماء فإذا قرب منه الإنسان انفشّ فلم ير شيئًا، وسمّي سرابًا لأنّه ينسرب أي يجري كالماء.
{بِقِيعَةٍ} وهو جمع القاع مثل جار وجيرة، والقاع: المنبسط الواسع من الأرض وفيه يكون السراب.
{يَحْسَبُهُ الظمآن} يظنّه العطشان {مَاءً حتى إِذَا جَاءَهُ} يعني ما قدّر أنّه ماء فلم يجده على ما قدّر، وقيل: معناه جاء موضع السراب فاكتفى بذكر السراب عن موضعه، كذلك الكافر يحسب أنّ عمله مغنى عنه أو نافعه شيئًا فإذا أتاه الموت واحتاج إلى عمله لم يجد عمله أغنى عنه شيئًا ولا نفعه {وَوَجَدَ الله عِندَهُ} أي وجد الله بالمرصاد عند ذلك {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} جزاء عمله، {والله سَرِيعُ الحساب أَوْ كَظُلُمَاتٍ}.
وهذا مثل آخر ضربه اللّه تعالى لأعمال الكفّار أيضًا يقول: مثل أعمالهم في خطائها وفسادها، وضلالتهم وجهالتهم وحيرتهم فيها كظلمات {فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} وهو العميق الكثير الماء وذلك أشدّ ظلمة، ولجّة البحر: معظمه {يَغْشَاهُ} يعلوه {مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} متراكم {مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} قرأ ابن كثير برواية النبّال والفلنجي سُحاب بالرفع والتنوين، ظلمات بالجرّ على البدل من قوله أو كظلمات. روى البّزي عنه، سحاب، ظلمات بالاضافة وقرأ الآخرون: سحاب، ظلمات كلاهما بالرفع والتنوين، وتمام الكلام عند قوله: {سَحَابٌ}.
ثمَّ ابتدأ فقال {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة البحر.
قال المفسّرون: أراد بالظلمات أعمال الكافر، وبالبحر اللجّي قلبه، وبالموج ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الرَّين والختم والطبع على قلبه.
قال أُبي بن كعب في هذه الآية: الكافر ينقلب في خمس من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة ومدخله، ظلمة ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار.
{إِذَآ أَخْرَجَ} يعني الناظر {يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} أي لم يقرب من أن يراها من شدة الظلمات.
وقال الفرّاء: كادَ صلة أي لم يرها كما تقول: ما كدت أعرفه، وقال المبرّد: يعني لم يرها إلاّ بعد الجهد كما يقول القائل: ما كدت أراك من الظلمة وقد رآه ولكن بعد يأس وشدّة، وقيل: معناه قرب من الرؤية ولم يُرَ، كما يقال: كاد العروس يكون أميرًا، وكاد النعام يطير.
{وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} يعني مَن لم يهده الله فلا إيمان له.
قال مقاتل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أُميّة، كان يلتمس الدين في الجاهلية ولبس المسوح ثم كفر في الإسلام.
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد بن إبراهيم العدل قال: حدّثنا أبو الحسين محمد بن منصور الواعظ قال: حدّثنا أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد قال: حدّثنا محمد ابن يونس الكديمي قال: حدّثنا عبيد الله بن عائشة قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُنَّ الله تعالى خلقني من نوره، وخلق أبا بكر من نوري، وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر، وخلق المؤمنين من أُمّتي من الرجال من نور عمر، وخلق المؤمنات من أُمّتي من النساء من نور عائشة، فمَن لم يحبّني ويحبّ أبا بكر وعمر وعائشة فما له من نور، فنزلت عليه {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ}».
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض والطير صَآفَّاتٍ} أجنحتهنّ في الهواء {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} قال المفسّرون: الصلاة لبني آدم، والتسبيح عام لغيرهم من الخلق وفيه وجوه من التأويل: أحدها: كلّ مصلّ ومسبّح قد علم الله صلاته وتسبيحه.